نقض فتوى البراك في حق أهل السنة الأشاعرة -بقلم: فاعل خير الله يعلمه-


 نقض فتوى البراك في حق أهل السنة الأشاعرة  -بقلم: فاعل خير الله يعلمه-

نقض فتوى البراك في حق أهل السنة الأشاعرة

-بقلم: فاعل خير الله يعلمه-

بسم الله الرحمن الرحيم، وبه ثقتي وأستعين.

هذا تعليق على فتوى صدرت مؤخرا لأحد مشائخ السلفية المعاصرة حول المذهب الأشعري وأئمته، لم يراع فيها المفتي الموضوعية العلمية ولا التزم ذكر معتقدات أهل السنة الأشعرية بما يطابق الواقع ولا كما وجدناها مصرحا بها في كتبهم، فاستدعى ذلك أن كتبنا هذه الكلمات ننبه فيها على غلطه في الفتوى، راجين منه وأشياعه التثبت قبل إصدار مثل هذه الفتاوى التي تضعف مصداقيتهم تجاه طلبتهم أوّلا وعوام المسلمين ثانيا.. وإلا فهي منعدمة عند من يعرف حقيقة مذهبهم..

وهذا نص الاستفتاء وجوابه والتعليق عليه.
ملاحظة: التعليق موجه أساسا إلى كلام المفتي، لا إلى شخصه تاب الله عليه.

كثرة الأشاعرة هل تدل على أنهم على الحق؟

السؤال
المشايخ الأفاضل: نعلم كلنا أن من رحمة الله عز وجل بأمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم- أنه لم يقبض النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد ترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، وتكفل رب العزة بحفظ هذا الدين إلى أن يشاء الله، فإذا تأملنا هذا الكلام ورجعنا إلى التاريخ الإسلامي، نجد أن السواد الأعظم من أهل الإسلام على البينة في أي عصر يعيشه الإسلام منذ الخلافة الراشدة، ومرورًا بكل الدول الإسلامية، وحتى يومنا هذا، هذا التفكير على الرغم من عقلانيته ومنطقيته إلا أنه غير مريح، لأننا إن طبقناه على أنفسنا وعقيدتنا فسنجد أن مذهب الأشاعرة هو الذي ساد في أهل السنة طوال هذه السنين، ولم يعرف في عامة أهل السنة شيوع ما نقول عنه إنه اعتقاد السلف، فإن كان ما نراه هو اعتقاد الصحابة، رضي الله عنهم، والسلف، فلِمَ لَم يظهره الله عز وجل، وأظهر غيره عليه؟ــــ
إن هذا الاستفتاء يحمل في طياته اعترافا بأن الحضارة الإسلامية الشامخة التي نصبو إلى إحيائها اليوم إنما تربت في أحضان السادة الأشاعرة، واعترافا بأن ما ينسب اليوم بهتانا وزورا إلى الصحابة والسلف الصالح لم يرفع رأسه يوما أمام الحق الذي كانت عليه الأمة مدافعة، وذلك بقيام أهل الحق من الأشعرية خصوصا والماتريدية طوال تلك الفترة بالواجب الكفائي من صد شبهات المبتدعين من المعطلين: (والمقصود بهم اصطلاحا الفلاسفة والمعتزلة نفاة الصفات الوجودية وتعلقاتها الحقانية، وحاشا الأشاعرة من ذلك)، والمشبهين: (والمقصود بهم الكرامية والمجسمة ومن تبعهم التزامًا من الذين قاسوا ذات ربهم وصفاته العلية على ذواتهم الناقصة وصفاتهم الجثمانية).
ولما كان المستفتي مصمما مسبقا على عقد لا يدري حقيقة ما فيه، أراد من الفتوى أن تزيده بعض الشبهات حتى لا يتحرر ويفيق من سباته، فكان منه أن استغرب من الرب تعالى كيف لم يظهر مذهبه ـ السلفي على زعمه ـ وأخزاه طوال القرون الفارطة، وأظهر عقيدة من ـ على زعمهم ـ ابتدعوا في الدين ما ليس فيه، وخالفوا الصحابة والتابعين.
فكان منه أن أظهر عدم ارتياح لما وعد به الله ورسوله من تسخير حفظةٍ للدين، ظاهرين على مر القرون وإلى يوم الدين. بل وفي استفتائه لوم للباري تعالى على عدم إظهاره المذهب السلفي ـ على زعمه ـ طوال هذه القرون الخالية، وعلى نصره للمبتدعين الأشعريين ـ على زعمه ـ بإظهار مذهبهم. وهذه حال كل من صمم على عقد فاسد تقليدا أو بعد نظر غير سديد، وراح يبحث له عن شبهات يوهم بها نفسه أنه على الحق السديد.
ولو قلنا بأن المستفتي عامي يروم الاسترشاد والبحث عن الجواب الصحيح، فكيف تستغل الفتوى جهله فتجيبه بالكذب الصريح!؟ وكيف تتجاهل أنه لا يزال للحق أنصارا، قادرين على بيان زيف مضمونها وأنها ليست سوى بهتانا!؟ أم كيف لسائل مسترشد أن يسلم بصحة أقوال ودعاوى عقدية مدلولاتها نظرية، من غير أن ينظر في مستنداتها وبيان صحيحها من فاسدها!؟ وهل هذا إلا عين التعطيل لما وهبه الحق تعالى من القوى الفكرية النظرية، التي رفع الله بها الإنسان عن درجة البهيمية!؟
وهذا نص جواب الفتوى نبين ما فيه من تدليس وبطلان، على مذهب أئمة لم يزل نور هداهم وتقواهم سار في كل زمان ومكان.

ــــ
الإجابة
الحمد لله، وبعد:
لقد بعث الله نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم- بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وقد تحقق هذا كما وعد- سبحانه وتعالى- فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله ليلاً ونهارًا سرًّا وجهرًا بقوله وفعله حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا، فما مات– صلى الله عليه وسلم- حتى أكمل الله له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته، كما جاء في الآية الكريمة التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو واقف بعرفة، وقد ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، يعني: أنه- صلى الله عليه وسلم- قد بين هذا الدين أكمل بيان، فبلغ رسالات ربه كما أمره الله بقوله: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)[المائدة:67]. وأمر صحابته، رضي الله عنهم، أن يبلغوا فقال في خطبته في حجة الوداع: “لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغَائِبَ”. وقال: “بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً”. فقام أصحابه، رضوان الله عليهم، بالبلاغ والدعوة، والجهاد أسوة بنبيهم صلى الله عليه وسلم، وانتشر الإسلام بالمعمورة شرقًا وغربًا.
وقد أخبر- صلى الله عليه وسلم- أنه يطرأ على هذه الأمة افتراق واختلاف، وبين أن الفرقة الناجية هم من كانوا على مثل ما كان عليه- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، رضي الله عنهم، كما أخبر- صلى الله عليه وسلم- أن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، وقد وقع الأمر كما أخبر- عليه الصلاة والسلام- وبدأ الافتراق في الأمة منذ أن ظهرت الخوارج والرافضة، والمرجئة والقدرية، ثم تفرعت الفرق،وتعددت، وظهرت بدعة التعطيل التي يعرف أهلها بمؤسسها الجهم بن صفوان، وهم الجهمية، وتفرع عن بدعة التعطيل، فرق شتى اضطربت مذاهبهم في صفات الله، وفي كلامه، وفي القدر، فغلبت على الأمة هذه المذاهب، ولكن الله قد ضمن حفظ كتابه ودينه، فلم يزل في هذه الأمة من يقيم لها أمر دينها بالبيان، كما جاء في الحديث المشهور: “يَحْمِلُ هَذَا العِلْمَ مِن كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْه انْتِحالَ المُبْطِلِينَ وتَأْوِيلَ الجَاهِلِينَ وتَحْرِيفَ الغَالِينَ”. وفي الحديث الآخر: “إنَّ اللهَ يَبْعَثُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائةِ سَنَةٍ مَن يُجَدِّدُ لهذه الأُمَّةِ أَمْرَ دِينِهَا”. ومع هذا الافتراق، وهذا الاختلاف لابد من رد ما اختلف فيه الناس إلى كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، واعتبار ذلك بما كان عليه الصحابة، رضي الله عنهم، وإنهم كانوا على الهدى المستقيم، وقد وعد الله بالرضا والجنة السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، كما قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التوبة:100]/.
والحق إنما يعرف بدلالة كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام- لا يعرف الحق بالكثرة، فإن الله تعالى أبطل ذلك، حيث بين أن الكثرة لا يعوَّل عليها، كما قال تعالى: (وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)[يوسف:21]. وقال تعالى: (وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) [يوسف:38].
وقال تعالى: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ)[الأنعام:116]. والسنة ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلت عليها نصوص الكتاب والسنة،
ـــ.
ملاحظة: استدلاله بعدم التعويل على الكثرة ليس في محله أصلا، بل ذلك يستلزم القدح في دليل الإجماع. فليتأمل فيه!!
إلى هنا هذا الكلام حق من حيث كونه كلام الله وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، أما من حيث الجواب عن الفتوى فهو كلام خطابي، بل شعري تدعيه كل الفرق الإسلامية، فكل منها يدعي الاعتصام بدلالة الكتاب والسنة، فهل رأيت معتزليا أو خارجيا أو مرجئا أو شيعيا أو غيره يستدل على بيان مذهبه بغير استناد إلى الكتاب والسنة!؟ فكل فرقة تقرر مذهبها استنادا إلى آيات قرآنية وأحاديث نبوية، وتدعي كغيرها أنها حافظة الدين علما ودراية ظاهرا وباطنا، وتنسب غيرها إلى الضلال والابتداع والفسوق!؟ فكل تلك الدعاوى قد اشتركت فيها سائر الفرق الإسلامية، والاستدلال بمجرد الانتساب إلى الكتاب والسنة لا يفيد عقيدة يقينية، بل لا بد من الاستدلال العلمي اليقيني على صحة ذلك.

فكل من يدعي أنه على حق لمطابقة اعتقاده دلالة الكتاب والسنة ـ كما يقول المفتي ـ من غير بيان لوجه تلك الدلالة وصحتها ومطابقتها للواقع بالأدلة فقد صادر ابتداء على المطلوب، فإن المطلوب بيان أيّ من الفرق طابقت معتقداتها الواقع الذي أيّدته دلائل الكتاب والسنة الصحيحة المحكمة، لا مجرد ادعاء الانتساب إليهما، ولا يخفى هذا الكلام على من له مسكة عقل.

وإذا تقرر هذا، فليعلم القارئ أن المسائل العقدية الخلافية التي دارت بين الفرق الإسلامية قد خرجت أكثرها عن طور المدركات المعلومة من الدين بالضرورية إلى طور المدركات الفكرية النظرية، إذ لم يقع الخلاف العظيم الذي نشأ بين طوائف وفرق الأمة الإسلامية حول ما عُرف تحت عنوان المعلوم من الدين بالضرورة، وهو الإيمان بوجود الله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وغيره من الأصول العظمى، ولكن الخلاف وقع حول تفاصيل تلك العقائد كمباحث الصفات والتعلقات وطرق تحصيلها والوصول إليها ومستلزماتها القريبة والبعيدة، ولا شك أنها أمور نظرية دقيقة في بعض الأحيان، ويسوغ الاختلاف فيها، بل ولن يقع الاتفاق عليها من الجميع بحكم طبيعتها كمسائل نظرية متفاوتة القرب والبعد، ومن حيث استمرار اختلاف أنظار البشر وأساليبهم المسلوكة في ذلك، كما أنه لا شك في كون الحق فيها واحد يجب شرعا بيانه بالحجة القاطعة.

وهذا ما يتغافل عنه السلفية المعاصرة، فيقررون مذهبهم كأنه من الضرورة بحيث لا ينبغي نقاشه أو ردُّه، وينبغي أخذه مسلَّما والتسليم له، ويهددون المخالفين بمجرد ذكر الكتاب السنة والانتساب إليهما. خلافا للأشعرية الذين يعترفون بنظرية تلك المسائل، ويطلبون النظر فيها والاستدلال الصحيح عليها قبل وبعد التصديق بها، ويحققون موافقتها للكتاب والسنة بلا تعسف.

قال إمام الحرمين مجيبا من يصادر على معتقداته النظرية ويدعي ضروريتها: ما ادعيتم الضرورة فيه، فأنتم منازَعون فيه. ويتبين بمخالفة عددنا لهم افترائهم في دعوى الضرورة؛ فإن ما يدرك بمبادئ العقول لا يجوز ـ في استمرار العُرف ـ مخالفةُ الجمع العظيم فيه، وإنما ينشأ الخلاف في النظريات؛ لانقسام الناس إلى الناظرين والمضربين عن النظر، ثم ينقسمون بعد افتتاح النظر لاختلاف القرائح والطباع، ولهذا لا يجوز اتفاق العقلاء في نظري عقلي كما لا يجوز اختلافهم في ضروري. (أي وإلا خرجوا عن كونهم عقلاء). البرهان ص 81

وإذا ساغ التقليد في المعلومات من الدين بالضرورة لاتفاق الجميع عليها وقوة ظهور أدلتها وقطعيتها من الدين، فلا يسوغ التقليد فيما هو نظري لاحتمال وقوع الغلط في طريق اكتسابه وكونه غير واقع على شروط النظر الصحيحة وعدم مطابقة نتيجته للواقع، ومجرد ادعاء كلٍّ أن الحق معه لا يفيد إلا بعد الوقوف على صحة طريقه في النظر وتوفر شرائط صحة إنتاجه للحق؛ إذ الدعاوى من حيث هي أقوال متكافئة، وإنما تختلف بمدى مطابقتها للواقع أو مخالفتها.

وقد أدرك الأئمة الأشعرية ذلك حق الإدراك، فبحثوا في الطرق النظرية، وبينوا الصحيح منها من الفاسد، وأقاموا منهجا متفردا قرروا به جميع العقائد الإسلامية بالسبل النظرية الصحيحة التي يدركها كل من وقف على حقيقة أصولهم، وسلكوا في ذلك منهجا لا مثيل له، ابتداء من إثبات واقعية الحقائق على السوفسطائية، مرورا بتحديد المدارك الإنسانية المشتركة وسبل استعمالها للوصول إلى تلك الحقائق، ووصولا إلى إثبات تلك الحقائق الدينية النظرية بالدلائل اللازمة لصحة استعمال تلك المدارك.. ولم يكن تصدرهم لحفظ العقائد الإسلامية طوال القرون من فراغ!!

وهم في ذلك مهتدون بالكتاب والسنة ابتداء بما حثا عليه، بل أوجبا شرعا من البحث والتفكر والنظر، وصولا إلى تصديق محكم ما جاءا به بالحجة العقلية والدلائل اليقينية.

وبعد ذلك وضعوا رحمهم الله تعالى منهجا متكاملا مبسطا للعوام من المكلَّفين يقرب لهم المسائل النظرية، ويوقفهم على صحة وحقية العقائد الإسلامية، بمقتضى المدارك السليمة البشرية، التي هي أصلا من خلق رب البرية، وبمقتضى ما أودع الباري فيهم من العلوم الضرورية.

واستدعوا المخالفين في النظر في تلك الأصول قبل الخوض في العقائد نفيا أو إثباتا، إلا أن من أعرض عن مشاركتهم في أصولهم الراسخة، استشكل ـ ولا يزال ـ نتائج أنظارهم الراجحة، ولا شك أنه غير معذور بعد أن أضرب عن النظر الصحيح، الذي مكنه الله تعالى سلوكه.

أما ما يدعو إليه المخالفون، سيما السلفية المعاصرة، فهو إما الإذعان لمدلول أقوال علماء قد خلو على النحو الذي يعينوه من غير بحث في مدى صحة ذلك الفهم ومطابقته للواقع ولمحكم الكتاب والسنة، أو الإذعان لدليل نظري فاسد لم تكتمل أركان وشروط إنتاجه الحقَّ ولم يتفق مع محكم التنزيل ولم يرجع أصلا إلى العلوم الضرورية، أو لوي أعناق الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة بإنكار صحيح مدلولاتها وبتعيين معنى لها لا يقتضيه لا النظر الصحيح ولا محكم الكتاب والسنة، وكل ذلك من غير موجب أو مستند يعول عليه سوى التحكم.

ومما ينبغي التنبيه عليه ـ وكثيرا ما يصدر عنهم ـ هو بطلان الاستدلال بظاهر قول الإمام الفلاني السلفي أو المحدث الفلاني في أصول الدين، وأخذه لذاته حجة من غير فهم وتدبر. والعجيب أن البعض يقوم بسرد أقوالهم، ويعتمد ظاهرها حجة في العقائد، معطلا بذلك فكره وعقله، بعد أن يئس من وجود ما في الكتاب والسنة ما يصحح فاسد مذهبه.

أما الأشعرية، فقد صرح الأئمة منهم أنهم لا ينتسبون إلى الأشعري في مذهبه في التوحيد على معنى أنهم يقلدونه أصول دينهم ويعتمدون على ظاهر أقواله ويتخذونها لذاتها حجة، بل لكونهم يوافقوه فيما صار إليه في أصول الدين من عقائد لقيام الأدلة العقلية والنقلية المحكمة على صحته، لا لمجرد التقليد، وإنما ينتسبون إليه ليتميزون عن المبتدعة الذين لا يقولون بآرائه الراجحة، ولكونه هو الذي انتدب للرد عليهم حتى قمعهم وأظهر لمن لم يعرف البدع بدعهم، ولم يبتدع رحمه الله تعالى مقالا في الدين، وإنما نصر ما كان عليه أهل السنة وزاده حجة وبيانا.

وبعد هذا التنبيه على محل النزاع، نبين افتراء تلك الفتوى على معتقدات الأئمة الأشعرية، ونرد عليها بلسانهم وأقوالهم الواضحة الجلية، عسى أن يتورع أصحابها مستقبلا عن تزييف الحقائق الدينية، والاستخفاف بعقول العوام بسلوك أمثال تلك الطرق الغير مرضية.

قالت الفتوى:
والأشاعرة فرقة من الفرق الإسلامية، وهم وإن كانوا ينتسبون إلى السنة، فليس مذهبهم موافقًا لما كان عليه الصحابة، رضي الله عنهم، وما دل عليه القرآن والحديث.ــــ

أقول: هذه مجرد دعوى عرية عن أي برهان، فالصحابة أصلا لم يصلنا بسند صحيح عنهم أنهم تكلموا في مثل تلك المسائل العقدية النظرية، مع أنا نعتقد أنهم على أعلى درجات المعرفة بالله بحسب الطاقة البشرية! ودعوى أن عقائد الأشاعرة لم توافق ما دل عليه القرآن والحديث قد ظهر ما فيها من الفساد لعدم اقترانها بدليل على ذلك، ولن تنطلي إلا على من حُرِم العلمَ والعقلَ من العباد، فإن إثبات ذلك متوقف على النظر في مدلول كلام الأشاعرة ومدى مطابقته لمدلول القرآن والحديث الصحيح، لا على الكذب عليهم ومجرد الادعاء كما ستفعل تلك الفتوى

قالت الفتوى:
فمذهب الأشاعرة يتضمن أمورًا مخالفة كنفي كثير من الصفات حيث لا يثبتون إلا سبعًا من الصفات.
ــــهذا خبر غير مطابق لواقع مذهب الأشعرية، والخبر الغير المطابق للواقع يسمى كذبا إذا كان مقصودا ، ويسمى إفكا وبهتانا وزورا إذا تعمد قائله إلصاقه ببريء منه. ثم ما ظنك أن يقع ذلك على أئمة الدين الهداة المهتدين!!؟
ودعوى حصر الصفات في سبع تكذبه نصوص أئمة الأشعرية التالية:
قال الفخر الرازي: الظاهريون من المتكلمين زعموا أنه لا صفة لله تعالى وراء هذه الصفات السبع أو الثمانية. وأثبت أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه اليد صفة وراء القدرة، والوجه صفة وراء الوجود، وأثبت الاستواء صفة أخرى. وأثبت أبو إسحاق الاسفرايني صفة توجب الاستغناء عن المكان، وأثبت القاضي ثلاثة أخرى، وهي إدراك الشم والذوق واللمس، وأثبت عبد الله بن سعيد القِدَم وراء البقاء. (المحصل، ص 437. ت د حسين اتاي.)
السعد التفتازاني: زعم بعض الظاهرية أنه لا صفة لله وراء السبعة المذكورة؛ لوجهين: أنه لا دليل عليه، وكل ما لا دليل عليه يجب نفيه. ورُدَّ بمنع المقدميتين. (شرح المقاصد 4/165. ت د عميرة).
السيف الآمدي: وهو باطل من جهة أنه لا يلزم من انتفاء الدليل انتفاء المدلول في نفسه، وإن انتفى العلم بوجوده!. (أبكار الفكار 1/348)
السيف الآمدي: من أئمتنا من زاد على هذا، وأثبت له صفات زائدة على ذلك وجزم بها، كالبقاء، والقِدم، والوجه والعينين واليدين. (أبكار الأفكار، 1/349. دار الكتب العلمية). ثم ساق الآمدي وجوه إثبات الشيخ الأشعري والاسفرايني والباقلاني لهذه الصفات الزائدة على السبع. وهم أئمة الأشعرية.
العضد الإيجي، والشريف الجرجاني: اختلف هل لله تعالى صفة وجودية زائدة على ذاته غير ما ذكرناه من الصفات السبع التي هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام؟ فمنعه بعض أصحابنا مقتصرا في نفيها على أنه لا دليل عليه، أي على ثبوت صفة أخرى، فيجب نفيه. ولا يخفى ضعفُه! لما مرّ من أن عدم الدليل عندك لا يفيد، وعدمه في نفس الأمر ممنوع. (المواقف للإيجي وشرحه للسيد، 3/147. ت د عميرة).
فلنكتفي بهذا القدر من نقول أئمة الأشعرية المعتبرين في بيان افتراء الفتوى عليهم، فقد بينوا أنه لا يتجرأ على حصر صفات الباري تعالى في سبع إلا ناقص النظر، أو متحكّم في مسالك الأدلة والعبر، وأما اتفاقهم على السبعة المذكورة فهو من حيث ظهورها وقوة أدلتها وقربها، ومن حيث كونها مكلَّف بمعرفتها بأدلتها القطعية اليقينية، ولا يستلزم ذلك حصرها في السبع كما صرح بذلك الأئمة. والحمد لله على نعمة إظهار الحق.
ــــ
قالت الفتوى
ويقولون: إن الإيمان هو مجرد التصديق.
ـــــ
هذا افتراء من نوع آخر، سلكته الفتوى بعدم تمييزها جهلا أو قصورا أو تلبيسا بين معنى الإيمان اللغوي المتواتر في لغة العرب الذي هو التصديق مطلقا بالحق أو بالباطل، ومعنى الإيمان الشرعي المكلَّف بتحصيله. هذا من جهة. وبين مفهوم أصل الإيمان المستلزم ـ شرعا ـ لأصل النجاة من الخلود في النيران، وبين كامل الإيمان المترقي صاحبه في درجات الكمال من جهة أخرى.
ثم ادعت الفتوى بعد تلبيسها أن الأشعرية مرجئة!! كبرت كلمة تصدر عنها!! تدعي على العلماء العاملين، المجاهدين المرابطين، الذين بينوا أصول الدين وطهروا منها الأقوال الباطلة، واستنبطوا فروع الدين وطبقوها على أرض الواقع قرون متطاولة، تدعي عليهم الإرجاء!! فمعلوم أن المرجئ هو الذي يعتقد أن الإيمان المستوجب للنجاة من الخلود في النيران هو مجرد التلفظ بالشهادتين، وأنه لا يضر معها معصية كما لا يضر معها عدم الإتيان بالطاعات الواجبة. وهل هذه إلا شهادة زور على أئمة الهدى الأشعرية يكذبها الحس قبل العقل!؟
ولن نأتي بمبحث الإيمان عند الأشعرية بكامله حتى نبين أكثر افتراء تلك الفتوى،ونكتفي بذكر تعريف للإيمان الشرعي صدر عن جمال الملة والدين العلامة ابن الحاجب يقول فيه: وَأَنَّ الإِيمَانَ هُوَ حَدِيثُ النَّفْسِ التَّابِعِ لِلْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ عَلَى الأَصَحِّ، خِلاَفاً لِمَنْ قَالَ: هُوَ المَعْرِفَةُ فقط. (عقيدة ابن الحاجب. مخ).
وهذا النقل جلبناه فقط لنبين كذب دعوى الفتوى أن الإيمان الشرعي هو مجرد التصديق عند الأشاعرة، مع تضمينها تهمة الإرجاء الشنيعة، وهذا لا يليق بمقال طالب علم شرعي، فضلا عن فتوى في أصول الدين..!! وبحث المسألة بتحقيق ما يقصده ابن الحاجب يخرج عن طور هذا التعليق السريع، وعن طور فهم أصحاب مثل تلك الفتاوى.
ـــ
قالت الفتوى
ويخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان، وهذا مذهب المرجئة.ــــ
عجيب أمر هذه الفتوى كيف تطلق الدعاوى الخطيرة جزافا!! ومن غير تقييد للمصطلحات ولا بيان للمراد منها عند أصحابها، فمعلوم أن الأشعرية عند بحثهم في مسألة الإيمان قد ردوا على المعتزلة والخوارج والمرجئة وأفحموهم، وسلكوا في ذلك مسلكا وسطا ينأى بالمسلمين عن التكفير والتفسيق والطعن في الدين، وعن التخاذل والتواكل واستباح الشرع المبين.
واستلزم ذلك منهم التمييز بين الإيمان الذي هو أصل النجاة الأخروية، والإيمان بمفهومه الكامل المندرج فيه الإتيان بالطاعات البدنية، فبينوا رحمهم الله أنه قد يطلق الإيمان شرعاً على مجموع التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان كما هو في حديث: « الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق » وأن إطلاقه كذلك تنبيه على أن الإيمان الكامل يستلزم عادة الإتيان بالأعمال الصالحة، وأنه يحمل صاحبه على الإتيان بالمأمورات والاجتناب عن المنهيات حسب الاستطاعة ، حتى كأن الأعمال من أجزائه التي لا تنفك عنه، لا المقصود من ذلك الإطلاق أن الأعمال داخلة في حقيقة وماهية الإيمان الشرعي المستوجب لأصل النجاة، الذي هو الإذعان القلبي والتسليم لكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم ضرورة من الدين ونسبة ذلك لمطابقة الواقع والتكلم النفسي بما يفيد ذلك الإذعان عن علم.
وقالوا رحمهم الله: إن الأعمال ليست ركنا من أركان الإيمان بمعنى أنها ليست داخلة في قوام حقيقته حتى يلزم من عدمِها عدمُه، فيستلزم ذلك تكفير العصاة في الحال أو الحكم عليهم بالخلود في النيران في الاستقبال، وليست الأعمال ساقطة بالكلية حتى لا يضر المؤمن ترك واجب أو القيام بمعصية؛ إذ من الأول يلزم إقفال باب التوبة والإفضاء إلى اليأس والقنوط، وأن لا يوجَد من العالَم مؤمن إلا نبي معصوم، ويلزم منه أيضا أن لا يطلق اسم المؤمن على أحد إلا بعد أن يستجمع خصال الخير عملا، ومن الثاني يلزم انفتاح باب الإباحة وارتفاع معظم التكاليف الشرعية. وكلاهما باطل.
ولذلك حققوا رحمهم الله أن الأعمال الصالحة شرط في كمال الإيمان، فالتارك لها أو لبعضها من غير استحلال ولا عناد ولا شك في مشروعيتها مؤمنٌ بإذعانه القلبي وتصديقه بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم ضرورة من الدين، مفوِّت على نفسه الكمال بترك بعض الأعمال، وهو في الآخرة في مشيئة الحق إن شاء عذبه بعدله وإن شاء عفا عنه بفضله، مع القطع بأن فئة من أمثاله سوف تدخل النار ولكن بلا خلود، والآتي بالواجبات المنتهي عن المحرمات ممتثلا محصِّل لأكمل الإيمان، ناج من عذاب النيران.
ثم نقول: من الغبي المفتون الذي يحصل أصل الدين عن يقين ثم يتهاون ويترك الإتيان بالطاعات الواجبة!؟ فهذا الأمر لا يجوزه العقل ـ عادة ـ في حق إنسان عامي، فما بالك بالأئمة الأعلام، مشائخ وفضلاء الإسلام، فكيف ينسب لهم الإرجاء!!. وهل هذا إلا جنون!!
ـــ
قالت الفتوى:ومن أصول مذهبهم نفي تأثير الأسباب في مسبباتها.ـــــ
هذه مسألة تعلو كثيرا على عقل المفتي وأتباعه بحيث لا يفيد كلامنا معهم في ذلك شيئا بالنسبة إليهم، فهو إن أراد بمقتضى ولازم كلامه إثبات تأثير الأسباب الحتمي الضروري الذي لا يجوز تخلفه في مسبباتها ، فنكتفي بالرد عليه بقوله تعالى: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء: 69] . فمذهبه على ذلك مستلزم لتكذيب هذا الكلام. وإن أراد إثبات تأثير الأسباب في مسبباتها التأثير العادي الذي يجوز تخلّفه، فذلك متوقف على أن المؤثر الحقيقي هو خالق السبب، لا السبب بعينه، وذلك عين مذهبنا، فلم التلبيس!!؟
ــــ
قال المفتي:ومن ذلك نفي تأثير قدرة العبد في أفعاله.ــــ
هذه المسألة أولى أن لا نطيل الكلام معه فيها لخروج عقولهم أصلا عن طور إدراكها، وحتى أقوال أئمتهم فيها هي عالة على اجتهادات الإمام الجويني الأشعري فيها آخر عمره كما هو مسطور في النظامية، ولكلامه تحقيق تدق له أنظار الفحول، فضلا عن من أذن مذهبهم بالزوال والأفول..
ولكن نقول: إن أراد المفتي بنفي تأثير العبد في أفعاله، التأثير الذي يقصد به إخراج تلك الأفعال من العدم إلى الوجود وإنشائها واختراعها ابتداء، والمتوقف على علمهم التفصيلي بها، واستقلال إرادتهم وقدرهم عليها، فنفي ذلك عين مذهبنا، وإثبات ذلك التأثير من البطلان بحيث لن نتكلف الرد عليه. وإن أراد نفي التأثير فيها بمفهوم آخر مخصوص، فقد أثبته جمهور الأشعرية وعبروا عنه بالكسب تبعا للقرآن الكريم، فلم يفتري عليهم نفي التأثير مطلقا وينسب الجبر إليهم بهتانا !!؟
ثم نقول: الإمام الجويني الأشعري له بحث طويل في تلك المسألة، وأثبت فيه لقدرة العبد نوع تأثير في فعله بالاختيار بإذن الله لا على الاستقلال. وشرح ذلك بعض المحققين من الأشعرية، وفسروا الكسب الذي يقصده الإمام بتحصيل العبد بقدرته المؤثرة بإذن الله ما تعلقت به مشيئته الموافقة لمشيئة الله. فلماذا لم يذكره المفتي. أليس ذلك رأي إمام من أئمة المدرسة الأشعرية!؟

ثم إني تصفحت أقوال السلفية المعاصرة في هذه المسألة، فوجتها لا تخرج قيد أنملة عن نقول حرفية من ابن القيم في شفاء العليل وابن تيمية في كلامه على المسألة، ومعلوم عند الباحثين أنهما تبنيا رأي الجويني الأشعري المذكور فيها، مع تهويل وتطويل وتمويه مما هو من لوازم مذهبهم، في حين أن المدرسة الأشعرية كانت تأسس النظريات وتقيم عليها الأدلة وتدفع عنها الشبهات، فشتان بين ناظر مستبصر ومقلد لا يفقه ما يقول. فلم التلبيس!!؟
ـــــ
قالت الفتوى
ومن ذلك قولهم بأن كلام الله معنى نفسي لا يسمع من الله؛ لأنه ليس بحرف، ولا صوت، وأن هذا القرآن عبارة عن كلام الله ليس هو كلام الله حقيقة.
ــــ
ما هذا التدليس والتهويل !؟
قال الشيخ البكي الأشعري معبرا عن معتقدات الأشاعرة: اتفق أهل السنة والجماعة على أنّ القرآن كلامُ الله تعالى غير مخلوق، بل هو قديم أزلي، وأنّه مسموعٌ بالآذان، مَتلُوٌّ بالألسنة، محفوظ في الصدور، مكتوب في المصاحف. وهذا كله حَقٌّ مُتَّفق عليه، واجبٌ الإيمان به؛ لأنّ القرآن يقال على ما يقال عليه الكلام، فيقال على المعنى القائم بذاته جلّ وعلا المعبَّر عنه باللسان العربي المبين، ومعنى الإضافة في قولنا: “كلام الله” إضافة الصفة إلى الموصوف كعلم الله، والقرآن بهذا المعنى قديم قطعاً كما تقدّم. ويقال على الكلام العربي المبين الدالِّ على هذا المعنى القديم، ومعنى الإضافة على هذا التقدير هي معنى إضافة الفعل إلى الفاعل كخَلْقِ الله ورَزْقِه، وكلا الإطلاقين حقيقةٌ على المختار، خلافاً لمن زعم أنه حقيقةٌ في أحدهما مَجازٌ في الآخر. (انتهى من شرح عقيدة ابن الحاجب)
هذا إبطال لادعاء الفتوى الباطل على الأشاعرة أن القرآن ليس كلام الله حقيقة. أما ما يرومه السلفية المعاصرة من إثبات الحروف والأصوات صفات وجودية متعاقبة على ذات الباري ـ تعالى عن قولهم! ـ قياسا على كلامهم وبناء على إنكارهم الكلام النفسي، فذلك لا يثبت بمجرد الادعاء، وإنما ميدانه التحقيق والتدقيق، ولا ناقة ولا جمل لهم فيهما، فلم الإدعاء الباطل علينا!!؟
ـــــ
قال المفتي مدعيا على الأشاعرة:فموسى لم يسمع كلام الله من الله، بل إن الذي سمعه كلامٌ خلقه الله في الشجرة وهو عبارة عن المعنى النفسي، وهذا من أعظم التنقص لله، حيث يتضمن هذا القول تشبيه الله بالأخرس.ــــــ
أما الرد على الأول، فقد قال الشيخ البكي: ثم اعلم أنّ أهل السنة قد اختلفوا في الكلام القديم، هل يُسمَع لا بواسطة ما يدل عليه، أو لا يُسمَع إلا بواسطة؟ فإلى الأوّل ذهب جمهور أهل السنة، وإلى الثاني ذهب أبو منصور الماتريدي والاسفراييني. وأُورِد عليهما اختصاصُ موسى عليه السلام بسماع الكلام، ولو كان كما قالاه لم يكن اختصاص؛ إذ الكلام على ذلك التقدير لا يُسمَع إلا بواسطة الدالِّ عليه، وكلّ الأنبياء كذلك. (انتهى من شرح عقيدة ابن الحاجب).
فهذا نقل يثبت أن سماع كلام الله تعالى النفسي الذي هو صفة وجودية جائز عقلا، وهو قول جمهور أهل السنة الأشاعرة، بل واقع سمعا لموسى عليه السلام. فلماذا التدليس!!؟.
ولن نطيل البحث في مسألة الكلام وإثبات النفسي منه للباري واستحالة قيام الحروف والأصوات بذاته، فذلك محله مطولات كتب الأصول الدينية، وإنما مرادنا فقط بيان الكذب على الأئمة ونسبة الأقوال الفاسدة إليهم شهادة عليهم بالزور، ألا وشهادة الزور…
قال الشيخ البكي الأشعري: وأمّا أنّ الكلام مركَّب من الحروف، فليس ذلك هو الكلام الذي نَرُومُ إثباتَه الآن، بل الذي نروم الكلامَ النفسيَّ الذي ليس بحَرفيٍّ، والكلام الحَرفيُّ دليل عليه. وما نقل عن الحنابلة من أنّه هو المُركَّب من الحروف الملفوظة وأنها قديمة فجهالة محضة، ولتَعْلم أنّ الإمام أحمد مبرَّأ من هذا المعتقَد، وإن كان المنتسبون إليه ينسبون إليه هذا القول فذلك وَهْمٌ مَحض وعدمُ فهمٍ عنه. (انتهى من شرح عقيدة ابن الحاجب)
ــــ
قال المفتي:
ولا يزكي هذه الأقوال إن قال بها بعض الأكابر والفضلاء من أهل العلم فإنهم غير معصومين. وما قالوه من هذه الأقوال المخالفة لمذهب السلف الصالح هو مما يعد من أخطائهم التي لا يتابعون عليها، وهم في ذلك مجتهدون ومأجورون، والواجب على المسلم أن يحكِّم كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وألا يتعصب لإمام، أو مذهب، فكلٌّ يؤخذ من قوله ويرد، إلا الرسول صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
الشيخ / عبد الرحمن بن ناصر البراك
ــــــليت المفتي يطبق هذا الكلام على نفسه وطلبته، أما نحن فقد انحل الإشكال عندنا بتحريم علمائنا ـ بناء على أدلة قوية ـ التقليد في المسائل النظرية العقدية الدينية، لا في الضروري منها، فذلك على التحقيق جائز إن كان التقليد مطابقا للواقع. وقد نقل عن القاضي الباقلاني أنه قال إثر مخالفته للشيخ الأشعري في وجودية صفة البقاء: الله أعلم أني لم أخالف مشائخي لأذكر، وإنما التقليد في أصول التوحيد ممتنع!. انتهى.
وادعاؤه مخالفة الأشعرية لمذهب السلف الصالح دعوى سئمنا من سماعها، ولست أدري ما السحر الذي يجعلها تنطلي على عوام المسلمين!!؟
وأما اعتباره الأشعرية ـ مع مخالفاتهم الكثيرة ـ من المجتهدين في الدين، وأنهم لا يتابعون عليها، فمحض تناقض، إذ الأصول الدينية المحق فيها واحد، والمخطئ يجب أن يرد عليه علميا ويضيق عليه بالأدلة والبراهين إلى أن يترك بدعته وترويجها بين العوام، خلافا لما هو عليه الحال في الفروع.. وإطلاقه أن المخطئ في العقائد مجتهد ومأجور لا ينبغي التعويل عليه في كل المسائل، فمنها ما اتضحت أدلتها بحيث اقتربت من الأدلة الضرورية، والاجتهاد فيها مراغمة وعناد. والله أعلم بالصواب.
قال الشيخ تقي الدين المقترح جد الشيخ دقيق العيد: ولم يُختَلف في أن العقائد يجب دعاء الناس إلى الحق فيها، ولا يجوز تخلية كل معتقدٍ وما يعتقده؛ فإنّ الحق في الاعتقاد مقطوع به، لا يُعذر فيه مخطئ. ولكن لا يجوز أن يتصدى لدعوة الحق إلا عالمًا بطرق النظر ووجوه العِبَر، وليس للعوام أن يأمروا وينهوا في الاعتقاد. ولو خاضوا في ذلك لم يأمنوا أن يخلطوا الحق بالباطل من حيث لا يشعرون. (انتهى من شرح العقيدة البرهانية)
وهذه نصيحتي للمفتي رفع الله عنه غشاوة التقليد، وإن كان ذلك مع تقدم السن وكثرة المقلدين والأتباع مستحيل عادة، فإن تلك الأمور تصد قطعا عن النظر.. ولكن من مذهبنا جواز خرق العوائد، فنرجو له ذلك من الله تعالى.
هذا ما أردت التنبيه عليه مما رأيته من باطل في هذه الفتوى، وإن كنت أعتقد أن الرد عليهم لا يجدي معهم نفعا ما لم يقلعوا عن التقليد في أصول الدين النظرية، وذلك صعب عليهم من حيث أصل تكوينهم العلمي ومركزهم الاجتماعي الذي اكتسبوه من الدين، فإن إعادة النظر عندهم في أصول العقائد والرجوع عن معتقداتهم تستلزم ضياع ما هم عليه من عزة وشهرة ومتابعة من آلاف العوام، وما أصعب ذلك على النفوس.. ولكن الله خير وأبقى.
والله تعالى أعلم.

أضف تعليقاً